طُرحت تقييمات مختلفة خلال السنوات الأخيرة بخصوص الوجود الإيراني في سوريا.
لقد ارتكز هذا الوجود منذ البداية على ثلاث طبقات استراتيجية:
أ) الحفاظ على محور المقاومة وخطوط الإمداد إلى لبنان.
ب) منع سقوط الدولة العربية الوحيدة المتوافقة مع إيران.
ج) التواجد الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط.
تحليل نقاط الضعف في الاستراتيجية الإيرانية بسوريا:
على الرغم من النجاح الأمني للاستثمار الإيراني، إلا أنه عانى من نقاط ضعف في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية:
أ) التخلي عن الساحة الاقتصادية للمنافسين:
بينما كانت إيران تدفع التكاليف الرئيسية للحرب، كانت روسيا والصين تستحوذان على الجزء الأكبر من عقود إعادة الإعمار والطاقة.
ب) إهمال إعادة البناء الاجتماعي والثقافي في سوريا:
ركّزت إيران بشكل أساسي على الملف الأمني وأولت اهتماماً أقل لبناء العلاقات الشعبية والإعلامية والثقافية؛ وهي الساحة التي استثمرت فيها تركيا والإمارات بكثافة.
ج) الاعتماد المفرط على روسيا:
أدى الثقة في وساطة موسكو في بعض الملفات إلى تراجع إيران عن بعض أولوياتها في مناطق معينة؛ خاصة في جنوب سوريا، حيث فتحت
روسيا المجال لإسرائيل.
د) غياب خارطة طريق شاملة لمرحلة ما بعد الحرب:
أبلت إيران بلاءً حسناً في المجال العسكري، لكنها افتقرت إلى خارطة طريق كاملة لتحويل هذا الوجود إلى هندسة سياسية مستدامة. لقد أعاق التركيز على البقاء والعمليات العسكرية صياغة هندسة سياسية واقتصادية واجتماعية مستدامة لتحويل المكاسب الميدانية إلى نفوذ طويل الأمد.
ه) تفويض مسؤولية الإصلاحات في الهيكل السياسي السوري لحزب الله:
في مجال إصلاح الهيكل السياسي السوري بعد استشهاد الحاج قاسم سليماني، لم تستطع إيران بناء علاقة قوية مع بشار الأسد وعهدت بهذا الملف إلى حزب الله. وبالنظر إلى الخلفية التاريخية للعلاقات بين الشعبين اللبناني والسوري، كان هذا التفويض بالكامل خطأً.
كان ينبغي على إيران أن تنظر إلى سوريا أكثر "كبلد مستهدف"، بدلاً من مجرد جسر عبور لإمداد المقاومة في لبنان.
بدا أن إيران كانت تساوي بين الحفاظ على سوريا والحفاظ على بشار الأسد، بينما كان من الممكن أن تظل سوريا في محور المقاومة وتحدث تغييرات في هيكلها السياسي.
لكن الخلل الأساسي كان غياب استراتيجية أمنية - سياسية - اقتصادية - ثقافية متكاملة ومتماسكة إلى جانب الإنجازات الأمنية. وقد أدى هذا النقص إلى عدم الاستثمار الكامل للمكاسب العسكرية في الأبعاد السياسية والاقتصادية.
تثبيت المكتسبات الماضية:
لا تزال سوريا إحدى النقاط الجيوسياسية الحيوية لإيران؛ لكن تثبيت المكتسبات الماضية يتطلب وجوداً ذكياً، متعدد الطبقات، ومتوازناً في جميع المجالات.
في أعقاب التطورات الأخيرة وسقوط حكومة بشار الأسد، يجب أن تخضع الاستراتيجية الإيرانية في سوريا لتغيير جوهري ومتعدد الأبعاد. إذا كان الهدف هو الحفاظ على النفوذ طويل الأمد وتعزيز "محور المقاومة"، يجب على إيران أن تبتعد عن التركيز المطلق على الأبعاد الأمنية والعسكرية وتتبنى استراتيجية سياسية-اقتصادية-اجتماعية شاملة.
فيما يلي أهم الخطوات التي يمكن لإيران أن تتبناها، بناءً على نقاط الضعف المذكورة أعلاه:
أ) تغيير المقاربة السياسية: التركيز على الهيكل الجديد
يجب على إيران أن تحوّل وجودها من "دعم شخص (بشار الأسد)" إلى "دعم تيار سياسي-اجتماعي".
يجب على إيران أن تقيم فوراً قنوات اتصال مع الهيكل السياسي الجديد الذي يتشكل في دمشق (ولو بحذر) لضمان استمرار مراعاة المصالح الرئيسية (محور المقاومة وخروج إسرائيل).
بطبيعة الحال، يجب ألا يقتصر هذا النفوذ على مجموعة أو حزب واحد. فالتواصل مع القبائل، والنخب السياسية الجديدة، والشخصيات المؤثرة في الأوساط الشعبية والدينية يمكن أن يعمق النفوذ.
ب) إحياء الوجود الاقتصادي والمشاركة في إعادة الإعمار
بدلاً من التخلي عن الساحة الاقتصادية للصين وروسيا، يجب على إيران أن تدخل بنشاط في مرحلة إعادة الإعمار لتحويل التكاليف الماضية إلى مكاسب اقتصادية طويلة الأجل.
التركيز على عقود البنية التحتية الرئيسية (الطاقة، النقل، الإسكان) التي تحقق نفوذاً طويل الأمد ومصالح اقتصادية مباشرة للشركات الإيرانية.
تسهيل التجارة والصادرات: بدلاً من مجرد المساعدات المالية الحكومية، يجب إنشاء آليات مالية وتجارية مبسطة وإعفاءات مستهدفة لتمكين القطاع الخاص الإيراني من التواجد بفعالية وتنافسية في السوق السورية.
تحديد أولويات مناطق النفوذ: تركيز اقتصادي على المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية القصوى لإيران (مثل طرق الاتصال بلبنان والبحر المتوسط).
ج) القوة الناعمة والمجتمع المحلي
لتثبيت النفوذ على المدى الطويل، يجب على إيران تعويض النقص في وجودها الثقافي والاجتماعي الذي تم تجاهله في السنوات الماضية.
الاستثمار في المشاريع الاجتماعية: التي تحسّن مباشرة حياة المواطنين السوريين العاديين (مثل إعادة بناء المستشفيات والمدارس وتوفير المياه والكهرباء). هذا يمكن أن يغير صورة إيران في الرأي العام السوري من قوة عسكرية بحتة إلى حليف تنموي.
استخدام وسائل الإعلام، والمراكز الثقافية، والمنظمات غير الحكومية: لخلق علاقات شعبية ومواجهة النفوذ الثقافي والإعلامي للمنافسين الإقليميين.
تقديم المنح الدراسية وإرسال بعثات متخصصة (غير عسكرية): يمكن أن يخلق طبقة نفوذ ثقافي مستدامة.
د) إعادة تقييم المخاطر والأمن
بالنظر إلى التغييرات الهيكلية في دمشق وازدياد الهجمات المحتملة، يجب أن تكون إدارة المخاطر أكثر ذكاءً.
تقليل التركيز العسكري غير الضروري: يجب على إيران جعل قواتها أكثر احترافية والتحول من التركيز على الوجود الضخم (الذي كان هدفاً سهلاً للضربات الجوية) إلى وجود استخباري واستشاري بمرونة عالية.
التوازن مع روسيا والجهات الفاعلة الأخرى: يجب ألا تعتمد إيران مرة أخرى بشكل كامل على وساطة موسكو أو أي قوة خارجية أخرى. يجب عليها تنظيم علاقاتها مع تركيا (كلاعب نشط في الشمال) والعراق (كعمق استراتيجي غربي) بشكل موازٍ ومستقل عن روسيا.
خلاصة:
يجب أن تكون الاستراتيجية الإيرانية الجديدة في سوريا أكثر ذكاءً، توازناً، وأقل تكلفة من الماضي، وأن تحوّل المكاسب الأمنية إلى نفوذ إقليمي عبر تعزيز البعد الاقتصادي والقوة الناعمة.